قهوة سوداء بدون سكر
ها أنا ذي أجلس مجددا أمام تلك النافذة التي اهترأ خشبها ويكاد يسقط، أتربع فوق ذلك الكرسي الذي مل حملي طوال اليوم، وألف حولي ذلك الوشاح الذي اختلط برائحتي ودموعي التي لم تكد تفارقه، أحدق مجددا في الخارج أنظر لتلك المدخنة التي لا تزال تنفث دخانها، وأراقب المطر الغزير الذي ينهمر بشدة. قد أنسى كل شيء ولا أنسى أن أجلب تلك القهوة السوداء، سواد قاتم مظلم وموحش، قهوة بدون سكر بطعم مر كطعم الحياة، قهوة من دون حياة كما أفقدها أنا. والآن بعد أن صار عمري عشرين عاما، أبحث عن شيء فقدته منذ مدة، شيء غال بالنسبة لي ويعنيني كثيرا، إنني أبحث عن نفسي التائهة التي اختفت منذ مدة، لا أدري هل فقدتها أم قتلتها، لا أدري هل شابت أم عادت لأيام الصغر، لا أدري إن كانت حية أم بين الأموات.
احتسيت جرعة من القهوة مجددا وتنهدت بنفس محترق مشتعل، نفثت من فمي نفسا ببخار يشبه دخان المدخنة كأنما ينافسه، نظرت إلى عنان السماء التي لم أكد ألمحها من هطول المطر، الآن أنا وحيدة في هذا البيت الجبلي أتجرع مرارة حزني وألمي، أحب أن أحكي حرفا واحدا فتتراكم الحروف والكلمات في لساني وتتعثر وأصمت من جديد، يكاد عقلي يصرخ ووجهي يظل هادئا كأن شيئا لا يحدث..حان الوقت أخيرا لأفتح تلك الرسالة التي لطالما امتنعت عن قرائتها، رسالة كنت أحس بها دائما، لكنه لم يسمح لي بقراءتها إلا بعد أن أبلغ سن الثامن عشر، ولمنني في كل يوم كنت أتهرب منها، لأنني أعلم بأن المكتوب سيكون قاتلا، وسيكون عذابه أكبر من هذا الذي أعيشه وأنا أنظر إلى هذه الرسالة، وأخيرا حملتها بين يدي المرتجفتين اللتان ما كادتا تقويان على حمل فنجان القهوة فكيف لهما أن تحملا رسالة فيها تقبع أحزان العالم، ها أنا ذي أفتحها وضربات قلبي تتسارع، وعيناي تتعقبان أول كلمة، تنتظران أن تعرف المرسل، وأتمنى من صميمي أن لا يكون هو، وخيالي يسرح بعيدا، وقلبي يتمنى أن أكون قد أخطأت في تخميني هذه المرة..وأخيرا فتحتها والتهمت كلماتها بسرعة لم يتعثر بها لساني لأول مرة، كنت أتفرس السطور وأنا أقرأها، مع كل كلمة دمعة وإنهيار أبى أن يفقدني صوابي..كانت الرسالة تقول: “عزيزتي كاثرين، هذه الرسالة لك مني يا ابنتي الغالية، أنا والدك، أعلم بأنه قد طال غيابي عنك كثيرا منذ أن شاهدتك آخر مرة كان عمرك آنذاك ستة عشر عاما فحسب، والآن لا شك في أنك أكبر بعامين، لا زلت أتذكرك وأنت تحضنينني وتبكبن على فراقي لأنني كنت مضطرا للسفر لفرنسا حتى أتابع العمل هناك فقط لعدة أشهر ثم أعود، لكنني كنت أكذب عليك فحسب، فالحقيقة أنني سافرت لأتابع علاجي هناك بسبب هذا المرض الخبيث الذي كان يقتلني في كل يوم، بالنسبة لي فقد كنت أعلم بأن عناقك ذاك كان هو آخر عناق، أما أنت فقد كنت تعيشين دائما بأمل أن أعود مجددا، أعلم بأن مربيتك السيدة ماريز قد تعبت من الكذب في كل يوم وهي تخبرك عن مجيئي القريب، أعلم بأنها ستكون قد تكبدت العناء لتربيتك، فقد كانت دائما تهتم بك عندما توفيت والدتك، أنا الآن أقبع على فراش الموت ولا أمل للنجاة، عندما سافرت وبعد شهرين فحسب تأكدت من أنه لا أمل للشفاء، كتبت تلك الرسالة وأنا أتلفظ أنفاسي الآخيرة، وطلبت منهم أن يقدموها لك فقط عندما تبلغين سن الثامن عشر، ولا شك في أن خبر وفاتي سيكون قد وصلك الآن وأنت في هذه السن، أنا آسف لأننا تركناك وحيدة أنا وأمك، لكن الأسوأ من ذلك هو ما سأخبرك به الآن، فأنا لن أكذب عليك بعد الآن وسأخبرك بالحقيقة التي لطالما أخفتها عنك مربيتك نزولا عند رغبتي، فالأدوية التي تتناولنيها كل يوم وتجبرك مربيتك على شربها من أجل أن تنامي جيدا ما هي إلا أدوية كانت تقاوم مرضك الذي ورثته عني، فقد اكتشفناه مؤخرا وهذه الأدوية ستحافظ على حياتك، ربما لبضع سنوات أو ربما لعدة شهور، أنا آسف جدا يا ابنتي، أبوك المحب”.
سقط كوب القهوة من يدي دون أن أشعر، الدموع من عيناي لم تتوقف كمطر هتان، كانت هذه الرسالة كالصاعقة، كنت أعلم بخبر وفاة والدي لكنني كنت قد بدأت أتعايش معه، ولكن أن أعلم بأني قد ورثت ذلك المرض أيضا فهذا ما لم أكن أتوقعه، كنت واثقة من ذلك والآن تأكدت شكوكي، فمربيتي كانت دائما تمنعني عن السؤال عن هذا الدواء ولكن عندما سافرت مؤخرا لزيارة عائلتها فقد تفقدت ذلك الدواء وبحثت عن معلومات عنه فكانت الفاجعة أن شكوكي قد تحققت..لكنني كنت أطمع ببصيص أمل عسى أن يكون كل ذلك مجرد كابوس..وقد قتلته هذه الرسالة الآن..وهكذا أصبحت حياتي عبارة عن بقعة سوداء من دون طعم، تماما كهذه القهوة.